تدبر رسائل القرآن الكريم

ثمن أُذُنك الضائعة: كيف يشتري لهو الحديث ثبات قلبك؟

هل فكرت يوماً في الثمن؟

في زحام حياتنا المتسارع، وبين ملايين الرسائل التي تستقبلها أذناك يومياً، لا نكاد نلتفت إلى أثمن ما نملك: قناة الوصل الأولى بيننا وبين السماء، وهي حاسة السمع. هذه الأذن هي الطريق الذي اختاره الله ليحيي قلبك بكلامه. لكننا في غفلة ما، نسينا قيمتها.

لذا، يصرخ فينا الهدى من سورة لقمان، ليوقظنا على حجم خسارتنا.

أولاً: الثمن المدفوع لـ "لهو الحديث"

يصف القرآن حالة التبذير الروحي، حالة القلب الذي اختار أن يُبادل الهداية بثمن بخس. تأمل معي هذه الآية:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾

الآية تتحدث عن الشراء، أي دفع ثمن. ما الذي ندفعه مقابل كل موجة صوتية، أو نغمة، أو أغنية تشغل مساحة في أذهاننا ووجداننا؟

إن الثمن ليس مالاً، بل هو: ثمن من وقتك: أوقات ثمينة كان يمكن أن تكون لحظات تدبُّر أو صلاة أو قرب.

ثمن من سلامة قلبك (مرض الأذن الروحي): بَلْ إننا صرنا في بعض الأوقات عندما نسمع الموسيقى نظنها علاجاً، ولكن الحقيقة المؤلمة أنها تزيد من ألم القناة السمعية الروحية. هذا هو الخطر الحقيقي، ليست الأغنية في ذاتها، بل في وظيفتها التي تؤديها كـ صارف عن الحياة الحقيقية، وتزيد القلب هجراً للمصدر النقي.

يا صديقي، إذا كان الله قد منحك هذا السمع ليكون طريقاً إلى الحياة الأبدية عبر سماع وحيه، فهل يليق بنا أن نستخدمه في شراء ما يضلنا؟ إن لهو الحديث ليس مجرد ترفيه، بل هو سدادة صمت توضع في القلب قبل الأذن، تصمّه عن سماع نداء الحق. فلنصحح مسار قناتنا السمعية.

ثانياً: القرآن.. فرصة للوقوف والثبات

بعد أن رأينا كيف أن لهو الحديث يشتري منا ثباتنا، نجد في آية أخرى وصفاً لحالة التيه والجدل التي يعيشها الإنسان فاقد اليقين:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾

هل شعرت يوماً أنك تجادل العالم من حولك، وتجادل حتى نفسك؟ هذا الجدل والتشتت نابع من فقدان الأرض الصلبة للوقوف. أنت تفتقد ثلاثة أركان للثبات ذكرتها الآية: العلم، والهدى، والكتاب المنير.

في خضم هذا التيه، يأتيك القرآن الكريم ليكون فرصتك الثمينة للنجاة! إن التدبر في كتاب الله ليس مجرد قراءة، بل هو منارة العودة التي تمنحك:

العلم اليقيني: ليقطع الجدال الداخلي الذي لا ينتهي.

الهدى العملي: ليرسم لك خطوات واضحة وثابتة.

الكتاب المنير: الذي يضعك على أرض صلبة لا تهتز، فتستطيع أن تقف على قدميك بثقة، مستنداً إلى نور ربك لا إلى ظنون البشر.

فلا تترك الجدل يضيع عزمك، وعد إلى المنبع والمنير.

ثالثاً: صرخة النهاية.. في مواجهة الفناء

نحن نعلم أننا لن ندوم إلى الأبد. لماذا لا نواجه الفناء بترك العناء؟ لماذا لا نواجه الفناء بالسكينة التي يوفرها اليقين؟

بعد كل هذا التدبر، يختم الله سبحانه سورة لقمان بخاتمة تقف بنا على حقيقة مصيرنا:

﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾

يا لَها من صرخة! بعد أن حذّرنا من تضييع الوقت في اللهو، وأرشدنا إلى اغتنام الفرصة في الثبات، يذكرنا بأخطر جهل نواجهه: "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ".

هذا اليقين بالجهل يجب أن يوقظنا من السبات. ما دمنا لا نعرف متى أو أين ستكون النهاية، فلنجعل كل لحظة من يومنا بناءً وتدبراً وتحصيلاً لثمن الإيمان.

فكرة ختامية:

لن نقنع الجميع في يوم وليلة بقراءة القرآن وتدبره، ولكننا نريد أن نظهر ما في هذا القرآن من كنوز: قيم، وأدب، وأخلاق، وعلم، ومعرفة. لا تترك إمكانية الموت المفاجئ تجعلك تضيع يومك في اللهو أو الجدل الفارغ. اجعل القرآن هو صديقك ومرشدك، هو النور الذي يطرد التيه، واليقين الذي يقطع الجدل، حتى تكون جاهزاً للقاء الله في أي أرض وأي وقت